د. عبد المجيد بن محمد الجلاَّل
الشفافية والموضوعية في الطرح الإعلامي السعودي لقضايا المجتمع ومشكلاته، وهمومه المعيشية، مسلكٌ نحتاجه، ونتوق إليه، وهي رسالته الرائدة، والمفترضة، لمتابعة وتقويم أداء المؤسسات العامة والمجتمعية، وكشف مكامن الخلل، ومواطن الفساد، في إدارة هذه المؤسسات، وتبعاته السلبية على كمية ونوعية الخدمات المُقدمة لعموم أفراد المجتمع، وعلى الوفاء باحتياجاتهم الضرورية. فالإعلام نافذة مهمة، وسلطة رابعة، تكشف الداء وتقترح الدواء، وتنبه السلطة العمومية ومتخذي القرار، إلى ضرورة إصلاح الخلل في مؤسسات وهيئات الدولة العاملة.
في السنوات القليلة الماضية برزت على سطح الإعلام السعودي المرئي، بقنواته العامة والخاصة، برامج حوارية تتعاطى قضايا الشأن العام، في إطارٍ من الشفافية، والمصداقية، والجرأة العالية، أكسبها متابعة جماهيرية واسعة متعطشة إلى معرفة ما يجري داخل بعض مؤسسات وهيئات الدولة، من أعمالٍ وممارسات إدارية ومالية، لا تتماهى مع توجيهات القيادة العليا الحاكمة للمسؤولين بالعمل لجهة تقديم أفضل الخدمات الممكنة لعموم المحتاجين إليها.
ودون الخوض في مسألة تقويم هذه البرامج، ومدى فعاليتها، فإنَّه يُحسب لها نجاحها في تجاوز بعض الخطوط المتعرجة، والوعرة، وفتح العديد من الملفات الساخنة التي عجز مجلس الشورى وسواه عن معالجتها، بلْه وإظهار خطورتها الأمنية والاجتماعية. ومنها قضايا: البطالة، والتوظيف، والصحة، والإسكان، والنقل العام، ونظام التقاعد، والرواتب المتدنية لبعض موظفي الدولة، وارتفاع مستويات الأسعار... وكلها قضايا تؤرق المواطن، وتقض مضجعه.
في السياق نفسه كشفت هذه البرامج سوءات بعض القيادات الإدارية في الدولة، وضعف إحساسهم بالمسؤولية الوطنية، وعدم قدرتهم، أو رغبتهم، في تحمل مسؤولية إنجاز المهمات المنوطة بالمؤسسات والهيئات التي تحت إدارتهم. مع أنَّ بعضاً من قضايا المواطنين ومشكلاتهم، لا تحتاج في معالجتها لجهودٍ استثنائية، إذا حسُنت النوايا، وتوفرت الإرادة، والإدارة الواعية بمصالح واحتياجات أبناء وبنات الوطن.
من نماذج التعامل السيئة وغير المسؤولة مع قضايا المواطنين ومشكلاتهم، ما جرى لأخواتنا العزيزات خريجات الكليات المتوسطة، البالغ عددهن نحو ( 4 ) آلاف خريجة، والتي يمكن إدراجها ضمن نطاق العبث والفساد الإداري، الذي حال دون توظيفهن لعقدين ونيف من الزمن ، وتخلى كل المسؤولين المعنيين عن متابعة ومعالجة وتصحيح أوضاعهن. وقد اضطررن إلى طرق أبواب العديد من المسؤولين، وأعضاء مجلس الشورى، دون جدوى، ودون نظر واعتبار إلى توجيهات ولاة الأمر، وإلى مواد النظام الأساسي للحكم – دستور البلاد – الضامن لحقوق وواجبات أبناء الوطن، وكرامتهم وإعزازهم، وعدم تركهم عرضة للاستجداء، والإهانة، والظلم والقهر، وفق ماجاء خاصَّة في نصوص مواده الآتية:
المادة الثامنة: يقوم الحكم في المملكة العربية السعودية على أساس العدل، والشورى، والمساواة، وفق الشريعة الإسلامية.
المادة العاشرة: تحرص الدولة على توثيق أواصر الأسرة، والحفاظ على قيمها العربية والإسلامية، ورعاية جميع أفرادها، وتوفير الظروف المناسبة لتنمية ملكاتهم وقدراتهم.
المادة السادسة والعشرون: تحمي الدولة حقوق الإنسان، وفق الشريعة الإسلامية.
المادة الثامنة والعشرون: تُيسر الدولة مجالات العمل لكل قادر عليه، وتسن الأنظمة التي تحمي العامل وصاحب العمل.
على أيَّة حال هذه الخطايا الإدارية في التعامل مع قضايا أبناء الوطن، تؤكد على أهمية اختيار قيادات إدارية ذات دُرْبة ومهارة وقريحة متقدة. أولوياتها خدمة المواطن في المقام الأول، وتلبية احتياجاته، انطلاقاً من إحساسٍ واعٍ بالمسؤولية الوطنية الخلاَّقة، التي تتجاوز التناقضات وحُمَّى المصالح. مع العمل في كل مرحلة زمنية معينة على إعادة تقويم أداء هذه القيادات ودرجة تفاعلها مع القضايا المجتمعية. واستبدال غير الصالح والنافع منها، بأخرى وفق المواصفات المشار إليها.
ومن شأن هذه الإجراءات التصحيحية الضرورية أن تسهم كذلك في الحدِّ من التبديد النسبي للموارد والمخصصات المالية المعتمدة لمؤسسات القطاع العام، والتي يُضخ فيها سنوياً مليارات الريالات من خزينة الدولة, وتوجيهها نحو المنافذ التي تخدم مصالح واحتياجات كل المستحقين من أبناء الوطن وبناته.
عموماً، وعلى وقع آمال المواطن المعيشية والوظيفية، تظل هذه البرامج الجماهيرية المميزة نافذة أمل لتصحيح الخلل، وبناء وعي مجتمعي بحقوق المواطنين في وطنهم، كما كفلها لهم دينهم الحنيف ثمَّ دستور هذه البلاد بكل مواده ومعطياته. وصولاً إلى حياة إنسانية كريمة، ومستقبلٍ مشرق، وسماءٍ صافية، وأحلامٍ غير مؤودة، لهم ولأبنائهم.
كلمة أخيرة:اعتنى علم الإدارة بتصنيف القيادات الإدارية، ومنها القيادات البيروقراطية، والأوتوقراطية، فالأولى قيادات تفتقد مهارة تطوير بيئة العمل وعناصر التغذية الراجعة داخل أروقتها، بما يجعلها عاجزة عن تقديم خدمات عالية المستوى والجودة للمجتمع، وتُكبِّل نفسها بأنظمة ولوائح عفا عليها الزمن. والثانية قيادات نفعية همَّها الأكبر تعظيم منافعها وتحقيق مصالحها الضيقة والفئوية، دون أدنى اعتبار لقِيم الأمانة والانتماء والمسؤولية الوطنية. فمصالح الناس وحقوقهم هي آخر همَّهم وجهدهم.
والتساؤل المهم يدور حول الحجم والنسبة الفعلية للقيادات البيروقراطية، والأوتوقراطية في مؤسسات وهيئات الدولة العاملة! وأترك الجواب للقارئ الكريم!
من مأثور الحِكم:
وارْعَ الأمانةَ والخيانةَ فاجْتنِبْ
واعْدِلْ ولا تظْلِمْ يطِيبُ المَكْسَبُ